[center
]فضل الغرس والزرع
روى الإمام مسلم بسنده عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله :" ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة " .
الشرح
فى هذا الحديث الشريف بيان لأهمية نوع العمل , وهو استنبات الأرض وزراعتها . وفى القرآن الكريم توجيه لعبرة من أسمى العبر ودلالة من أهم الدلالات على قدرة الخالق الوهاب الذى يحيى الأرض ويرشد من عليها أن يعالجوها بأيديهم ليستخرجوا عطاءها الذى يسوقه الله لهم رزقا كريما قال تعالى : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ) .
والحديث الذى نحن بصدده , يبرز لنا أهمية الغرس والزراعة , ويوضح ما للزارع والغارس من مثوبة عند الله تعالى إذا أكل من غرسه أو زرعه طير أو إنسان أو بهيمة .
بل إن منزلة هذا النوع من العمل تتضح لنا بصورة رائعة وعظيمة حين نعلم أن مثوبة الزرع أو الغرس ممتدة إلى ما بعد الموت , وصدقة جارية إلى يوم القيامة , ففى رواية :
".. فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له – أى ما أكل منه – صدقة إلى يوم القيامة " .
إن ثواب ذلك لموصول , مادام الزرع مأكولا منه , حتى ولو انتقل إلى ملك غيره ولو مات الغارس أو الزارع .
لقد أخذ صاحب هذا العمل تلك المنزلة من الأجر والمثوبة , لأنه بهذا شارك فى عمارة الحياة , فلم يعش لنفسه فقط , وإنما عمل لمصلحة مجتمعه , وقدم لنماء الخير مستطاعه . وسواء حصل من زرعه على شئ أو لم يحصل , وسواء عاش ليأكل منه أم لا . روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضى الله عنه , أن رجلا مر به وهو يغوس غرسا بدمشق , فقال له : أتفعل هذا , وأنت صاحب رسول الله ؟ . قال : لا تعجل على , سمعت رسول الله يقول : " من غرس غرسا لم يأكل منه آدمى ولا خلق من خلق الله إلا كان له به صدقه " .
وفى رواية أخرى قال : " أتغرس هذه وأنت شيخ كبير , وهذه لا تطعم إلا فى كذا وكذا عاما ؟؟ . فقال : ما على أن يكون لى أجرها , ويأكل منها غيرى ؟ " ز
ولله در القائل : " غرس من قبلنا فأكلنا ونغرس ليأكل من بعدنا " .
بل إن الرسول ليرتفع بمستوى العمل حتى يجعل منه عملا خالصا من أعمال البر , بحيث يصبح عاية ذاته , لا وسيلة من الكسب والمعاش فحسب .
يقول : " إذا قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها و الفسيلة هى ما يقطع من صغار النخلة أو يجتث من الأرض .
والتقييد " بالمسلم " يخرج الكافر , لأنه ليس له فى الآخرة ثواب ولأن أعمال البر والخير لا يثاب عليها فى الآخرة إلا المسلم .
أما الكافرون فلا ثواب لهم , لقوله تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) أى أن أعمال البر التى يقوم بها الكافرون فى الدنيا يعمد الله إليها يوم القيامة فيظهر بطلانها كلية ويحبطها , لأنها خالية من الإيمان الذى هو أساس الثواب فى الآخرة
ولكن أليس يكافأ الكافر بما يؤديه من أعمال البر كالغرس والزرع وغير ذلك .
1- يرى البعض أنه لا ثواب له .
2- ذهب بعض العلماء إلى أنه يثاب عليه فى الدنيا , بزيادة ماله أو ولده .
3- وذهب بعضهم إلى أنه يثاب عليه فى الآخرة بتخفيف عذاب غير الكفر وهذا الرأى هو ما نميل إليه , لأن للكافر نوعين من العذاب :
الأول : دخوله النار وعذابه فيها , بسبب كفره وعدم إيمانه وهذا النوع لا يخفف منه شئ ولا يدخل الجنة أبدا مهما عمل من أعمال البر كما سبق .
الثانى : عذابه على ما ارتكبه من الجرائم والشرور والمعاصى , وهذا النوع يتفاوت فيه الكفار فى عذابهم , كل على حسب ما ارتكب ويخفف من عذاب هذا النوع بسبب عمل البر وأما ما رواه مسلم بسنده عن عائشة قالت : قلت يارسول ابن جدعان كان فى الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه ؟ قال : " لا ينفعه إنه لم يقل يوما ! " رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " أى أنه لم يكن مصدقا بالبعث ومن لم يصدق به كافر ولا ينفعه عمل , فيحتمل أن المراد بقوله : " لا ينفعه " أى فى دخول الجنة وعدم الخلود فى النار وهذا لا يمنع أن لعمله نفعا فى تخفيف عذاب غير الكفر فقط . ومما يقوى ما نميل إليه من أن أعمال البر للكافر تخفف من عذاب غير الكفر – ما رواه الإمام أحمد من حديث أبى أيوب الأنصارى : " ما من رجل يغرس غرسا " والرجل يطلق على المسلم والكافر , وأما تقييد الحد يث الذى معنا بالمسلم فى قوله : " ما من مسلم " فذلك لأن الغالب فى خطابات الرسول أن تكون للمسلمين .
ولأنه أراد حصول الثواب فى الآخرة , وهو خاص بالمسلم وهذا لا يمنع ما نراه من تخفيف عذاب غير الكفر , لا حصول ثواب ولا ثبوت صدقة .
ويدل على تخفيف عذاب غير الكفر بسبب أعمال الخير ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن الحارث قال : سمعت العباس يقول : قلت يارسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك ؟ قال : " نعم وجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح " " والضحضاح " ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين واستعير فى النار . وهل هذا الثواب لا يحصل إلا لمن جعله صدقة وأعده لذلك فحسب ؟ .
والجواب : إن حصول الثواب المذكور يدخل فيه من غرسه صدقة , ومن غرسه لأهله وأولاده أو لنفقته , لأن المسلم يثاب على ما يسرق منه وإن لم ينو ثوابه .
وهل يختص الثواب بمن يباشر الغرس أو الزرع بيده ؟
إن النية هى أساس الثواب والعقاب " إنما الأعمال بالنيات " فلا يختص بحصول الثواب أن يباشر الإنسان العمل بيده بل يتناول من استأجر لمثل هذا العمل أحدا . أما إذا كانت نية الغرس أو الزرع لمتعاطى الزرع أو الغرس ولو كان ملكه لغيره حصل الثواب للغارس أو الزراع .
لأن الرسول أضافه إلى أم مبشر ثم سألها عمن غرسه . روى مسلم بسنده عن جابر أن النبى دخل على أم مبشر الأنصارية فى نخل لها فقال لها النبى : من غرس هذا النخيل أمسلم أم كافر ؟ فقالت : بل مسلم فقال :" لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شئ إلا كانت له به صدقة " .
مايؤخذ من الحديث
1- يعطينا هذا الحديث نموذجا أعمال البر المستمرة الثواب
2- استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن الزراعة أفضل أعمال الكسب والمعاش .
3- يثاب الإنسان على ما تلف من ماله دون إهمال منه أو ما سرق منه كذلك .
4- إن استمرار المثوبة والأجر فى الآخرة إنما هو خاص بالمسلمين .
5- دعوة الإسلام إلى التكافل الاجتماعى والتعاون الانسانى فى مختلف الصور .
6- فى الحديث دعوة إلى بث روح التسامح ومعالجة النفس البشرية من حدة الغضب والخصومات .[/center]