فضل التوبة
يقول الله تعالى
قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمه الله أنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا الى ربكم
وأسلموا له من قبل ان يأتكم العذاب ثم لاتنصرون
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنالله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء اليل حتى تطلع الشمس من مغربها
وفى الحديث القدسى عن ابى ذر قال-قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ،من عمل حسنه فله عشر امثالها او يزيد ومن عمل سيئه فجزاؤها مثلهاومن عمل قراب الارض خطيئه
ثم لقينى لايشرك بى شيئا جعلت له مثلها مغفره
ومن تقرب الى شبرا تقربت له ذراعا ومن تقرب الى
ذراعا تقربت منه باعا ومن آتانى يمشى أتيته هروله
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه
ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا
والصلاه والسلام على نبينامحمد وآله وصحبه وسلم
اما بعد
اذكركم ونفسى بتقوى الله وضرور التوبه من كل صغيره وكبيره ومحاسبه النفس قبل ان تحاسب
لذلك يجب اولا ان نعرف معنى التوبه وشروطها
معنى التوبه
هى العوده والرجوع الى الله بعد كل ذنب
كبير كان او صغير والاعتراف والاقرار به وانه
لاملجأ الاالى الله وانالا نستطيع ان نفضح
انفسنا الاامامك مع العلم بأنك يارب تقبل منا
شروط التوبه
1-الندم على الذنب
2-ترك الذنب ومفارقته
3-العزم على عدم العوده اليه ومعاهدة الله
على ذلك
4-ان كان يختص بأدمى لابدمن اداء الحق
اليه(من مال،امانه،غيبه،نميمه)
من أمثله التوبة
روي أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السلام، فاجتمع الناس اليه وقالوا يا كليم الله ادع لنا ربك يسقينا الغيث، فقام معهم وخرجوا الى الصحراء وهم سبعون الف أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: ياالهي اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالاطفال والرضع والبهائم والرتع الشيوخ والركع .
فما زادت السماء إلا تقشعاً والشمس إلا حرارة، فتعجب موسى عليه السلام وسأل ربه عن ذلك، فأوحى الله اليه ان فيكم عبداً يبارزني بالمعاصي منذ اربعين سنة، فنادي في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم، فقال موسى الهي وسيدي انا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يبلغ مناداي، ثم قال يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعاصي منذ اربعين سنة اخرج من بين اظهرنا فبك منعنا المطر، فنظر العبد العاص ذات اليمن وذات الشمال فلم يرى أحدا خرج منهم فعلم انه المطلوب، فقال في نفسه إن انا خرجت من بين هذا الخلق فضحت نفسي وان قعدت معهم منعوا لاجلي، ثم أدخل رأسه في ثيابه نادما على فعاله وقال الهي وسيدي عصيتك اربعين سنة وامهلتني وقد اتيتك طائعا فأقبلني.
فلم يستتم كلامه حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب، فقال موسى عليه السلام الهي وسيدي بماذا سقيتنا وماخرج من أظهرنا أحد، فقال يا موسى سقيتكم بالذي منعتكم، فقال موسى الهي أرني هذا العبد الطائع، فقال يا موسى اني لم افضحه وهو يعصيني، أأفضحه وهو يطيعني ؟
من المسائل المهمة في بحث التوبة هو تحليلها وبيان الحكمة من تشريعها، وذلك لأنّ القرآن قد أولى التوبة عناية فائقة حيث دعا جميع المذنبين والعاصين والمتمردين على اللّه إلى الإنابة والرجوع إليه سبحانه والندم على ما صدر منهم، فخاطب الجميع بقوله سبحانه:
( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنَّاللّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ ) .( [1])
صحيح انّ الآية تحدّثت عن غفران الذنوب جميعها ولم تتحدث عن التوبة بصورة صريحة هنا، إلاّ أنّه يمكن ومن خلال الالتفات إلى المفاهيم القرآنية القول أنّ غفران الذنوب في الحقيقة يتم في ظل مجموعة من العوامل التي من أهمّها التوبة والندم، وانّ تأثير باقي العوامل أقلّ من تأثير التوبة والندم.
يقول سبحانه في آية أُخرى:
( ...وَتُـوبُوا إِلَى اللّهِ جَميعـاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) .( [2])
إنّ هدف التوبة ـ بمعنى التوجّه إلى اللّه سبحانه ـ لا ينحصر في الندم على الذنب والمعصية، بل ـ و كما سنوضح ذلك لاحقاً ـ انّ عودة الأنبياء والأولياء إلى اللّه سبحانه تشملها الآية الداعية إلى العودة إلى اللّه والتوبة بصورة مطلقة والتي طرحت التوبة باعتبارها أصلاً كليّاً وعامّاً.
وبالالتفات إلى هذا الوعد والعناية الشاملة، وقع البعض في حيرة وإشكال في فهم حكمة هذا التشريع،ولذلك أطالوا التفكير في المسألة وخلصوا إلى أنّ: الإعلان عن قبول التوبة يمثّل في واقعه دعوة إلى ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي، إذ بإمكان العباد الاتّكاء على هذا الأصل واقتراف المعاصي على أمل التوبة من الذنوب في المستقبل، لأنّ الباب مفتوح أمامهم ولا داعي إلى إلزام أنفسهم من الأوّل بالطاعات والعبادات، بل لهم أن يلتذّوا بما حرّم اللّه فترة من عمرهم ثمّ بعد ذلك يتوجّهون إلى اللّه بالتوبة والإنابة واللّه غفور رحيم.
وبالطبع انّ هذا الإشكال لا يختص بتشريع التوبة فقط، بل أنّ هذا التفكير الساذج يصدق في كلّ عمل اعتبره الإسلام سبباً وعاملاً في غفران الذنوب، فعلى سبيل المثال: إنّ المخالفين لفكرة الشفاعة تعلّقوا بنفس الإشكال المطروح، وبما أنّ بحث سر وحكمة الشفاعة يبحث في محله، نكتفي هنا في البحث عن حكمة وفلسفة تشريع «التوبة» وبالطريقة التالية: من الصفات البارزة التي وصف القرآن الكريم بها الأنبياء هي صفتي الرجاء والأمل بالوعد والرحمة الإلهية والخوف والخشية من عذابه سبحانه فهم(عليهم السلام) يعيشون بين الخوف والرجاء، ففي الوقت الذي يستشعرون حالة الخوف من عذاب البرزخ ترنوا أبصارهم إلى جنة الخلد التي وعد بها المتّقون، وقد عبّر سبحانه عن هذه الخصلة الحميدة للأنبياء والأولياء بقوله:
( ...وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعينَ ) .( [3])
وأنت إذا لاحظت آيات الذكر الحكيم تجد أنّها دائماً تتحدّث عن البرزخ والعذاب وتقرنه بالحديث عن الجنة والنعيم الإلهي، انّ هذا التقارن يحكي أنّ مجال التربية والإصلاح وتهذيب أخلاق الإنسان وسوقه إلى اللّه وإلى الخصال الحميدة لا يتم من خلال التخويف والإنذار و التهديد فقط، بل لابدّ أن تنمّى إلى جانب ذلك حالة أُخرى وهي حالة بعث الأمل والرجاء في النفوس، ويقال للعباد: إن كان للّه سبحانه عذاب ونار فإنّ لديه أيضاً جنة ونعيماً لكي لا يحوم الإنسان حول الرذائل والقبائح وينفض عن كاهله غبارها ودنسها فيما إذا كان قد ارتكب في يوم ما شيئاً منها، ولا ييأس ولا يقنط من رحمة اللّه الواسعة، ويعيش حياته بين الرجاء والخوف.
ولقد وصف القرآن الكريم الأنبياء والرسل بأنّهم المنادون بالخوف والرجاء وبالعذاب والرحمة حيث قال سبحانه:
( كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ... ) .( [4]) إلى هنا اتّضح وبصورة إجمالية دور الأمل والرجاء في حياة الإنسان، وهذه المسألة بدرجة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أكثر من ذلك، ولكن المهم هو التذكير بأنّ الوعد بقبول التوبة وتحت شروط خاصة، يُعدّ فرعاً من فروع بعث الأمل في نفس الإنسان المذنب والعاصي، والمتمرّد على القوانين الإلهية، بأن يعيد النظر في مواقفه وما ارتكبه من الذنوب والمعاصي وأن يصحّح مسيرته ويطهر سريرته وذاته ويتحوّل إلى إنسان مستقيم الطريقة مرضي الخصال وليس التوبة ـ كما تصوّرها المستشكل ـ محفزاً وباعثاً على الذنوب والتمرّد على القوانين والأحكام الإلهية، وتوضيح ذلك:
لا ريب أنّ الإنسان غير المعصوم، وخلال مسيرة حياته الطويلة وتحت ضغط طغيان وجموح الغرائز والميول النفسانية، يرتكب سلسلة من المعاصي ويقع في الكثير من المخالفات، ممّا يؤدّي إلى أن تسوّد صحيفة أعماله بالكثير من الذنوب والموبقات.
فلو فرضنا انّ هذا الإنسان الذي وصل إلى هذا الطريق المنحرف، قد وجد نفسه أمام طريق مسدود وانّ الجسور بينه و بين ربّه قد قطعت جميعاً، وانّ باب التوبة والإنابة قد أُوصد في وجهه، ولم تترك له فرصة العودة إلى الطريق القويم، ماذا تراه سيفكّر حينئذ؟ ممّا لا ريب فيه أنّه وتحت حالة اليأس هذه يفكر بأنّه لم يبق أمامه إلاّ طريق واحد، وهو استغلال ما بقي من عمره في الملذّات والاستجابة للغرائز والميول مادام يشعر بأنّه معذّب على كلّ حال، فلماذا لم يتنعّم في الدنيا على أقلّ تقدير؟ ولا ريب أيضاً أنّه لا يفكّر ولو لحظة واحدة في إصلاح نفسه، لأنّه يعلم أنّ طريق الإصلاح قد سدّ في وجهه، فعليه مواصلة طريق الموبقات. ولكن الأُسلوب الصحيح أن يفتح باب التوبة أمام هذا الإنسان ليعتقد أنّ اللّه القهّار والمعذّب و المعاقب هو نفسه اللّه الغفور الرحيم ( وَهُوَ الَّذي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السييِّئاتِ ) .
ويعتقد انّه فيما إذا قرر إصلاح نفسه والعودة إلى طريق الصالحين ومنهج المؤمنين ونفض غبار الذنوب ودنسها وتركها إلى غير رجعة، وأن لا يعصي اللّه أبداً ولا يخالف له أمراً، فإنّ اللّه سيعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن سيّئاته، وحينئذ سيكون مصيره مصير الصالحين والطاهرين، فلا ريب أنّه سيقدم على اتّخاذ قرار العودة والإنابة إلى اللّه والتوبة إلى خالقه، ويسعى إلى إصلاح نفسه ويكون من المتّقين.
إنّ شعاع الأمل هذا سيحدث في داخل الإنسان تحوّلاً عظيماً يتغيّر على أساسه نمط سلوكه ومنهجه في الحياة إذ كلّما اقترب من اللّه ابتعد عن الذنوب والمعاصي والموبقات.
ومن هنا يتّضح انّ التوبة ليست هي عامل حثّ وترغيب على المعصية كما يقال، بل هي في الحقيقة من أهمّ العوامل في تقليل نسبة الذنوب والمعاصي، وكثيراً ما يهتدي الكثير من الناس المنحرفين والمذنبين في الشطر الثاني من عمرهم ويتوجّهون نحو الطهر والنزاهة وحينها تقل نسبة الجريمة والذنوب في المجتمع.
وأنت إذا ألقيت نظرة على السجون في العالم، وشاهدت الذين حكموا بأحكام طويلة الأمد أو مدى الحياة، أو بالأعمال الشاقة، فلو افترضنا أنّ من ضمن مقررات تلك السجون: انّ السجين الذي يثبت لدى المسؤولين على السجن ندامته على ما اقترف ويصلح ذاته ويغيّر أُسلوبه في الحياة ويتحوّل إلى إنسان مستقيم الطريقة، فإنّه ستشمله قوانين تخفيف العقوبة أو يطلق سراحه، فلو علم السجناء بهذه الفقرة القانونية التي تحيي في نفوسهم الأمل في العودة إلى الحياة الحرة والتخلّص من قيود السجن وقضبانه، فلا ريب أنّهم يحاولون الاستفادة من هذه الفرصة الذهبية; وأمّا إذا لم توجد مثل هذه القوانين ولم يكن لتوبة السجين وندمه أيّ أثر في تغيير مصيره، فمن الواضح أنّه لا يسعى إلى تغيير حياته في السجن، بل كثيراً ما يكون عامل إزعاج للمشرفين على السجن ويتحوّل إلى إنسان مشاكس أكثر ممّا هو عليه في السابق.
ويظهر من بعض الآيات المباركة أنّه كما أنّ التهديد بالعذاب والعقاب يمثّل أحد مرتكزات وأُسس إقامة الحجّة على العباد، كذلك الأمل والرجاء أيضاً يكون أساساً ومرتكزاً آخر لإقامة الحجة عليهم، ومن تلك الآيات قوله سبحانه:
( رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَالرُّسُلِ... ) .( [5])
ثمّ إنّ التوهّم السابق ـ الذي يرى أنّ التوبة تعدّ بمنزلة الضوء الأخضر أمام الإنسان لارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي ـ إنّما يصحّ ويصبغ نفسه بلون الدليل فيما إذا اعتقدنا أنّ التوبة تقبل على كلّ حال وفي جميع الشروط. ولكنّ الإمعان في المسألة يظهر لنا أنّ للتوبة شروطاً خاصة كثيراً ما تكون غير متوفّرة لدى الإنسان المذنب و العاصي، فإذا لم يطّلع الإنسان على تلك الشروط ويدرك جيداً أثرها فلا يمكنه أبداً التوبة والخضوع للقانون، بل قد يكون بعضها غير قابل للتوفّر في المستقبل.
ومن الشروط التكوينية للتوبة شرط بقاء الإنسان على قيد الحياة، ولا ريب أنّه لا يوجد مذنب على وجه الأرض يقطع باستمرار حياته إلى الوقت الذي يقرر فيه التوبة، وحينئذ كيف يأمل في التوبة مع هذا الشك والترديد في بقاء حياته لتتسنّى له التوبة، وكيف يرتكب الذنب على أمل أن يتوب في المستقبل؟
نعم هناك بعض المجرمين يرتكبون الذنوب على أمل التوبة ولكن في الواقع انّ هؤلاء يخدعون أنفسهم بعملهم هذا، وإذا لم يكن باب التوبة مفتوحاً أمامهم فإنّهم لن يمسكوا أيديهم عن الاستمرار في الجريمة والمعصية، بل يتظاهرون بالتوبة أمام الناس.
نعم يمكن استغلال الأصل الصحيح والاستفادة منه بطريقة سلبية، ولكن ذلك لا يكون سبباً للإمساك عن تشريع هذا الأصل التربوي المهم وحرمان الناس منه تحت ذريعة استغلاله من قبل البعض.
ثمّ إنّنا لابدّ أن ننظر إلى الأُمور نظرة واقعية، وأنّ نعترف بالحقيقة وإن كانت مرّة، وهي أنّ غالبية الناس يقترفون المعاصي في حياتهم ويقترفون الذنوب و الآثام وانّ المعصومين والمنزّهين من الذنب والخطأ قليلون جداً بعدد الأصابع،وبالنتيجة نعترف بأنّ الذنوب والمعاصي لا تنفك عن الفرد والمجتمع، سواء أكان باب التوبة مفتوحاً أم أُغلق باب التوبة في وجوه المجرمين، ولا شكّ أنّه في مثل هذه الحالة يكون لفتح باب التوبة وتشريعه أثرٌ فاعل في سعادة الإنسان واستقراره لا في شقائه وتعاسته أو....
نعم إذا كان إيصاد باب التوبة عاملاً في مصونية الفرد والمجتمع عن الذنوب، أو كان فتح باب التوبة سبباً وباعثاً «للتجرّي»، ففي مثل هذه الحالة يفقد التشريع حكمته وتفقد التوبة فلسفتها.
ولكن الواقع ليس كذلك، بل الحقيقة على خلافه، وذلك لأنّ الإنسان خلق وهو يحمل مجموعة من الغرائز والميول القاهرة التي قد تتغلّب على قدرة العقل وسلطانه وتجرّه إلى الهاوية، وهذه ظاهرة لا يمكن اجتنابها أو إنكارها في حياة الإنسان، وحينئذ لا يكون تشريع التوبة عاملاً مساعداً في وقوع الذنب أو كثرته وانتشاره في المجتمع، بل تعدّ التوبة نافذة أمل وبريق ضوء لتخليص الإنسان من أسر الشهوات وتخليصه من الشقاء والتعاسة.
إلى هنا اتّضح لناـ و من خلال ما ذكرنا ـ أحد الأسرار المهمة لتشريع التوبة، ومن المناسب جداً الإشارة إلى بعض الروايات التي أشارت بنحو ما إلى هذه الحكمة لتشريع التوبة:
1.عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:«يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له» ... قلت: فإن فعل ذلك مراراً، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر؟ فقال(عليه السلام) :
«كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة، وإنّ اللّه غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيّئات، فَإيّاكَ أَنْ تُقَنِّط المْؤْمِنينَ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ».( [6])
2. وقال أمير المؤمنين(عليه السلام) في بعض كلماته القصار:
«الْفَقيهُ كُلُّ الْفَقيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ، وَلَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللّهِ».( [7])
ففي هذا الحديث أشار إلى عاملين من عوامل التربية، أعني: «الخشية والرجاء»، فإنّ الاكتفاء بصفة الأمل والرجاء فقط هي من صفات اليهود أو من يسير على منهجهم، فإنّهم لا يخشون ذنوبهم وجرائمهم مهما كانت عظيمة; وأمّا الذين يعيشون حالة الخوف والخشية فقط فهؤلاء الناس يائسون والقانطون من رحمة اللّه سبحانه ولا يرون للتوبة أيّ أثر في نجاتهم وخلاصهم من العذاب الأُخروي.
3. كان الزهري عاملاً لبني أُمية فعاقب رجلاً ـ كما يروى ـ فمات الرجل في العقوبة، فخرج هائماً وتوحّش ودخل إلى غار، فطال مقامه تسع سنين، قال: وحج علي بن الحسين(عليه السلام) فأتاه الزهري فقال له علي بن الحسين(عليه السلام) :
«إنّي أخافُ عَلَيْكَ مِنْ قُنُوطِكَ ما لا أَخافُ مِنْ ذَنْبِكَ فابعث بدية مسلّمة إلى أهله، وأخرج إلى أهلك ومعالم دينك»، فقال له: فرّجت عنّي يا سيدي! اللّه أعلم حيث يجعل رسالته( [8]).( [9])
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوبة شديد العقاب، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فهذه رسالة لطيفة كتبها الإمام ابن رجب الحنبلي "رحمه الله"، في كتبه "لطائف المعرف لما لمواسم العام من الوظائف"
وفيها الحديث عن التوبة وعدم التسويف وترك داء طول الأمل، والاستعداد للموت وما بعده.
جعلها الله نافعة لناشرها وقارئها وسامعها. وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المعصية؟
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » ، دل هذا الحديث على قبول توبة الله عزّ وجلّ لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي. وقد دل القرآن على مثل ذلك أيضاً، قال الله عزّ وجلّ: { إنّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً } [النساء: 17].
وعمل السوء إذا أفرد دخل فيه جميع السيئات، صغيرها وكبيرها. والمراد بالجهالة الإقدام على عمل السوء، وإن علم صاحبه أنه سوء، فإن كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من أطاعه فهو عالم، وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن من كان عالماً بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنه يهابه ويخشاه، فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه، كما قال بعضهم: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى ما عصوه.
والثاني: أن من آثر المعصية على الطاعة فإنما حمله على ذلك جهله وظنه أنها تنفعه عاجلاً باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره، وهذا جهل محض، فإنه يتعجل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى وثوابها ولذة الطاعة، وقد يتمكن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعاماً مسموماً لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلص متن ضرره بشرب الترياق بعده، وهذا لا يفعله إلا جاهل.
المبادرة
روي عن ابن عباس في قوله تعالى: { يتوبون من قريب } [النساء: 17]، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقات التوبة، هو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.
وأيضاً فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، والتوبة في المرض عند حضور أمارات الموت تشبه الصدقة بالمال عند الموت. فأين توبة هذا من توبة من يتوب من قريب وهو صحيح قوي قادر على عمل المعاصي، فيتركها خوفاً من الله عزّ وجلّ، ورجاء لثوابه، وإيثار لطاعته على معصيته.
فالتائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده وبيده سيف مشهور، فهو يقدر على الكر والفر والقتال، وعلى الهرب من الملك وعصيانه، فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلاً له، طالباً لأمانه، صار بذلك من خواص المالك وأحبابه؛ لأنه جاءه طائعاً مختاراً له، راغباً في قربه وخدمته.
وأما من هو في أسر الملك ، وفي رجله قيد وفي رقبته غل، فإنه إذا طلب الأمان من الملك فإنما يطلبه خوفاً على نفسه من الهلاك، وقد لا يكون محباً للملك، ولا مؤثراًَ لرضاه، فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته، لكن ملك الملوك، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، لا يعجره هارب، ولا يفوته ذاهب، كما قيل: لا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، ومع هذا فكل من طلب الأمن من عذابه من عباده أمنه على أي حال كان، إذا علم منه الصدق في طلبه.
وقوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً } [النساء: 18]. فسوى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبة. والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة. فإن الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب، فإذا كشف الغطاء وصار الغيب شهادة، لم ينفع الإيمان ولا التوبة على تلك الحال.
وقد قيل: إنه إنما منع من التوبة حينئذ؛ لأنه إذا انقطعت معرفته وذهل عقله، لم يتصور منه ندم ولا عزم؛ فإن الندم والعزم إنما يصح مع حضور العقل. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: « ما لم يغرغر » يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه. فشبه ترددها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء وغيره، ويردده في حلقه. وإلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله عزّ وجلّ: { فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون } [الواقعة: 83- 84]، وبقوله عزّ وجلّ: { كلاَّ إذا بلغت التَّراقيَ } [القيامة: 26].
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
هناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
الاستعداد للموت
واعلم أن الإنسان ما دام يؤمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم جيبنئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحاً، فلا يُجاب إلى شيء من ذلك، تجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت. وقد حذر الله تعالى عباده من ذلك في كتابه، قال تعالى: { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثُمّ لا تُصرون . واتَّبعوا أحسن ما أُنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون . أن تقول نفسٌ يا حسرتى على ما فرّطت في جنب الله وإن كنتُ لمن السَّاخرين } [الزمر: 54- 56]، سُمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه ويقول: (يا حسرتى على ما فرَّطتُ في جنب الله) وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي، وقال آخر عند موته: لا تغركم الحياة الدنيا كما غرتني.
وقال تعالى: { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال ربِّ ارجعونِ . لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنّها كلمةٌ هو قائلها } [المؤمنون: 99- 100].
وقال تبارك وتعالى: { وأنفقوا من مّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربِّ لولا أخرتني إلى أجلٍ قريب فأصَّدَّق وأكن من الصالحين . ولن يؤخِّر الله نفساً إذا حاء أجلها والله خبيرٌ بما تعملونَ } [المنافقون: 10- 11]. قال الفضيل يقول الله عزّ وجلّ: ابن آدم! إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لا أصرعك بين معاصي.
وقسم: يفني عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفق لعمل صالح فيموت عليه، وهذه حالة من عمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الحنة فيدخلها.
الأعمال بالخواتيم، وفي الحديث: « إذا أراد الله بعبد خيراً عسله، قالوا: ما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه » صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
« إن الشيطان قال: وعزتك يا رب، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب عزّ وجلّ: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني » [رواه أحمد].
وروي أن رجلاً من أشراف أهل البصرة كان منحدراً إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يوماً، وغنته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى! تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه. وقرأ: { قُل متاع الدُّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتَّقى ولا تُظلمون فتيلاً . أينما تكونواً يُدرككُّم الموت ولو كنتم في بروجٍ مُّشيَّدةٍ } [النساء: 77- 78]. فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء، وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت، فقل غير هذا؟ قال: نعم فتلا عليه: { وقُل الحقُّ من ربِّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها } [الكهف: 29]، فوقعت من قلبه موقعاً، ورمى بالشراب في الماء، وكسر العود، ثم قال: يا فتى! هل هناك فرج؟ قال: نعم، { قُل يا عبادي الَّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إنَّ الله يغفر الذنوب جميعاً إنَّه هو الغفور الرَّحيم } [الزمر: 53]. فصاح صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.
وبقي هنا قسم آخر، وهو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطاعة، ثم ينبه على قرب الآجال، ليجدَّ في التزود ويتهيأ للرحيل بعمل يصلح للقاء، ويكون خاتمة للعمل، قال ابن عباس: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: { إذا جاء نصر الله والفتح } [النصر: 1] نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة.
وكان من عادته أن يعتكف في كل عام من رمضان عشراً، ويعرض القرآن على جبريل مرة، فاعتكف في ذلك العام عشرين يوماً، وعرض القرآن مرتين، وكان يقول: « ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي » ثم حج حجة الوداع، وقال للناس: « خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاقكم بعد عامي هذا » وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع. ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله، وقال: « أيها الناس ! إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب » ، ثم أمر بالتمسك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير صلى الله عليه وسلم: إذا كان سيد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزيادة في الإحسان، فكيف يكون حال المسيء؟
خذ في جد فقد تولى العمر كم ذا التفريط قد تدانى الأمر
أقبل فعسى يقبل منه العذر كم تبني كم تنقض كم ذا الغدر
تأهب للذي لا بد منه من الموت الموكل بالعباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
تب من خطاياك وابك خشية ما أثبت منها عليك في الكتاب
أية حال تكون حال فتى صار إلى ربه ولم يتب
فإن كان تأخير التوبة في حال الشاب قبيح، ففي حال المشيب أقبح وأقبح.
فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كل قبيح؛ فإن المرض نذير الموت.
وينبغي لمن عاد مريضاً أن يذكره التوبة والاستغفار، فلا أحسن من ختام العمل بالتوبة والاستغفار؛ فإن كان العمل سيئاً كان كفارة له، وإن كان حسناً كان كالطابع عليه.
وفي حديث "سيد الاستغفار": من قاله إذا أصبح وإذا أمسى، ثم مات من يومه أو ليلته، كان من أهل الجنة. وليكثر في مرضه من ذكر الله عزّ وجلّ، خصوصاً كلمة التوحيد؛ فإنه من كانت آخر كلامه دخل الجنة. وكان السلف يرون أن من مات عقيب عمل صالح كصيام رمضان، أو عقيب حج أو عمرة أنه يُرجى له أن يدخل الجنة. وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد.
يا غافل القلب عن ذكر الموت عما قليل ستثوي بين أموات
فأذكر محلك من قبل الحلول به وتب إلى الله من لهو ولذات
إن الحمام له وقت إلى أجل فأذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي
التوبة التوبة قبل أن يصل إليكم من الموت النوبة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة.
الإنابة الإنابة قبل غلق الإجابة. الإفاقة الإفاقة؛ فقد قرب وقت الفاقة.
ما أحسن قلق التواب! ما أحلى قدوم الغياب! ما أجمل وقوفهم بالباب.
من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر غير الموت؛ فقبيح منه الإصرار على الذنب.
أي شيء تريد مني الذنوب شغفت بي فليس عني تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتني رحمة بي فقد علاني المشيب
أيها العاصي، ما يقطع من صلاحك الطمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلا لتقع.
إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة. قالت ملائكة الرحمة: مرحباً وأهلاً، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلا.
يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو.
يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو؟
وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم.